23 أبريل، 2025 - 9:47 ص

كشفنا فسادهم “بالمستندات”| فضيحة فساد مدوية في شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية

شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية

شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية

في زمن تتكالب فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على المواطن المصري، يظل الفساد شبحًا يتربص بأحلام الناس ويعرقل مسيرة التنمية والتي يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي.. لكن هذه المرة، لم يعد الأمر مجرد شائعات تتردد في الأروقة أو همسات خافتة بين الناس، بل فضيحة مدوية موثقة “بالمستندات” هزت أركان شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية. قيادات كبرى في الشركة، وبطانتهم من مسؤولين في قطاعات حكومية متعددة، وقفوا أمام نيابة الأموال العامة بعد أن انكشف أمرهم. رشاوى مقننة بعشرات الألوف من الجنيهات، مخالفات مالية وإدارية صارخة، واستيلاء على المال العام بكل جرأة واستهتار، كل ذلك في مؤسسة كان من المفترض أن تكون في خدمة المواطن، لا أن تتحول إلى “عزبة خاصة” يديرها الفاسدون.

هذا التقرير ليس مجرد سرد للأحداث، بل رحلة إنسانية في كواليس الفساد، تحمل في طياتها غضب المواطن العادي الذي يدفع فواتير المياه من قوت أبنائه.
 سنغوص في تفاصيل هذه الفضيحة، نكشف الأسماء والمستندات، ونروي القصة بطابع بشري يعكس معاناة ابناء الغربية وآمالهم في محاسبة الفاسدين واستعادة كرامة المؤسسات التي أُنشئت لخدمته.

بلاغ وزير الإسكان: الشرارة التي فجرت الفضيحة
كل شيء بدأ بقرار شجاع من المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، عندما رفع صوته بالحق وتقدم ببلاغ رسمي إلى المستشار محمد شوقي، النائب العام، ضد قيادات شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية. لم يكن هذا البلاغ مجرد ورقة عابرة أو إجراء شكلي، بل جاء مدعومًا بتحقيقات دقيقة أجرتها هيئة النيابة الإدارية برئاسة المستشار عبد الراضي صديق. التحقيقات كشفت عن جرائم جنائية خطيرة، بدءًا من الاستيلاء على المال العام وصولاً إلى تقديم رشاوى بشكل ممنهج، في مؤسسة كان يُفترض أن تكون صمام أمان للمواطن.

تم تسجيل القضية تحت رقم 355 لسنة 2024 في نيابة الأموال العامة بطنطا، لتبدأ رحلة المحاسبة التي طال انتظارها. 
هذا البلاغ كان بمثابة صفعة مدوية لكل من ظن أن الفساد يمكن أن يمر دون عقاب، لكنه في الوقت ذاته أثار تساؤلات مؤلمة في نفوس الناس: كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ ولماذا استمر الفساد ينخر في هذه الشركة دون أن يرف جفن للمسؤولين؟ إنها قصة ليست فقط عن الفساد، بل عن الإهمال والصمت الذي سمح له بالتفشي.

عزبة خاصة: الشركة تتحول إلى تكية للمحسوبية والفساد
من كان يصدق أن شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالغربية، التي أُسست لتأمين حياة كريمة للمواطنين، ستتحول إلى “عزبة خاصة” يديرها المحسوبون والفاسدون؟ المستندات الرسمية التي حصلنا عليها تكشف عن واقع مرعب: مجلس إدارة يشبه “المجلس العائلي”، تعيينات تتم بناءً على العلاقات الشخصية وليس الكفاءة، وممارسات فساد علنية أصبحت حديث الشارع في الغربية.

من بين المخالفات الصارخة التي وثقناها، إنفاق أكثر من مليون جنيه على وجبات في جميع مطاعم المحافظة.
 نعم، بينما يعاني المواطن من الفواتير المرتفعة والتي تحرق جيوب الناس الغلابة وانقطاع المياه في بعض المناطق، كان المسؤولون يتناولون الطعام على حساب المال العام. تخيل معي: أسرة بسيطة تكافح لتوفير لقمة العيش، بينما يجلس مسؤول في مطعم فاخر يدفع فاتورته من جيب هذه الأسرة. هذا ليس مجرد إهدار، بل سرقة موصوفة تُضرب بها الأمثال في الاستهتار والجشع.

لكن الأمر لم يتوقف عند الطعام. الشركة تحولت إلى ملاذ للمحسوبية، حيث يتم تعيين المقربين وتوزيع المزايا دون حسيب أو رقيب. كيف يمكن لمؤسسة تحمل اسم “خدمة المواطن” أن تصبح مرتعًا للفساد بهذا الشكل؟ إنه سؤال يؤرق كل من يؤمن بأن المال العام هو أمانة يجب الحفاظ عليها.

كشوف البركة: 6 ملايين جنيه رشاوى مقننة
إذا كنت تظن أن الفضيحة توقفت عند وجبات الطعام الفاخرة، فأنت مخطئ. الضربة الكبرى جاءت مع “كشوف البركة والمكافآت” التي بلغت قيمتها 6 ملايين جنيه. هذه الأموال لم تُستخدم لتحسين خدمات المياه أو الصرف الصحي، بل تم توزيعها كرشاوى مقننة على مسؤولين في قطاعات حكومية متعددة، من الكهرباء إلى الصحة والري والبيئة، بالإضافة إلى سكرتير عام المحافظة.

“بالأسماء”، كشفنا تورط شخصيات كبرى مثل وكلاء وزارة الصحة والبيئة والري، ورئيس شركة كهرباء جنوب الدلتا ومساعديه. هؤلاء، الذين كان يُفترض أن يكونوا رقباء على المال العام وحماة لمصالح الشعب، تحولوا إلى شركاء في الجريمة. لم يكتفوا بالصمت على الفساد، بل مدوا أيديهم ليأخذوا نصيبهم من الكعكة. تخيل مدى الألم الذي يشعر به المواطن عندما يكتشف أن من وثق بهم لخدمته خانوا الأمانة بهذه الطريقة.

هذه الرشاوى لم تكن مجرد أموال تُوزع في الخفاء، بل كانت منظمة ومقننة تحت مسميات براقة مثل “المكافآت” و”كشوف البركة”. إنها جريمة تضرب في صميم العدالة، وتثير تساؤلاً مؤلمًا: إذا كان الحراس لصوصًا، فمن يحمي المواطن؟

لماذا أُجبر رئيس الشركة على الاستقالة؟
وراء كل فضيحة، هناك شخصيات تقود المشهد. رئيس مجلس إدارة الشركة السابق، الذي كان يدير محطة في مياه القاهرة قبل أن يجد نفسه فجأة في “عزبة خاصة” بالغربية، أُجبر على الاستقالة بعد أن انكشفت ممارساته. هذا الرجل، الذي كان يُفترض أن يكون قدوة في الإدارة والنزاهة، حوّل الشركة إلى مملكة خاصة به وببطانته.

تحت إدارته، تم تعيين 4 موظفين بالندب على الورق فقط، يتقاضى كل منهم أكثر من 15 ألف جنيه شهريًا دون عمل فعلي، مع شقق ومأكل ومشرب على حساب الشركة. سيارات وسائقون، ومصروفات شخصية تُدفع من “سلف العلاقات العامة”، كل ذلك كان جزءًا من حياة البذخ التي عاشها على حساب المواطن. تخيل موظفًا لا يذهب إلى عمله، لكنه يتقاضى راتبًا يفوق دخل عائلة بأكملها تعمل ليل نهار. هذا ليس مجرد فساد، بل استهتار بكرامة الناس.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان هذا الرئيس يعمل بمفرده، أم أن هناك شبكة أكبر تدعمه؟ إن استقالته لم تكن نهاية القصة، بل بداية لكشف خيوط الفساد التي تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد شخص واحد.

درس لم يتعظوا منه: من حيتان الصرف إلى أخطبوط الفساد
لم تكن هذه الفضيحة الأولى في قطاع المياه والصرف الصحي. قبل سنوات، ألقت الرقابة الإدارية القبض على المهندس عادل عطية، الملقب بـ”حوت الصرف الصحي”، بعد أن تقاضى رشاوى بقيمة 600 ألف جنيه في علب حلوى المولد مقابل إسناد أعمال لمقاولين. في نفس الوقت، سقط “عسل”، رئيس شركة مياه دمياط، بعد أن طلب 7.65 مليون جنيه كرشاوى، وحصل على 3 ملايين منها.

عوقب الأول بالسجن المشدد 7 سنوات، والثاني 10 سنوات، لكن يبدو أن هذه العقوبات لم تكن كافية لردع الفاسدين في الغربية. رئيس الشركة الحالي لم يتعظ، بل واصل المسيرة بنفس النهج، متحولاً من “حوت” إلى “أخطبوط” يمد أذرعه ليستنزف المال العام بكل الطرق. إنه درس قاسٍ يثبت أن الفساد لا يتوقف إلا بضربات حاسمة ومحاسبة لا هوادة فيها.

دور الأجهزة الرقابية: عيون مصر الساهرة
وسط هذا الظلام، برزت الأجهزة الرقابية كبصيص أمل للمواطن. الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة، لعبت دورًا بطوليًا في كشف الفساد. التحريات أثبتت أن المتهمين أسندوا الأعمال لمقاولين بطرق احتيالية، وعملوا محاضر صورية لتسهيل سرقة أموال الدولة. هذه الضربات المتلاحقة وضعت الشركة على “صفيح ساخن”، وفتحت الملفات المشبوهة التي طالما حاول الفاسدون إخفاءها.

لكن السؤال المؤرق يبقى: لماذا انتظرنا كل هذا الوقت حتى تتحرك الأجهزة؟ وهل كان يمكن منع هذا النزيف لو تحركت لجنة النزاهة والشفافية، التي أُنشئت داخل الشركة، بدلاً من أن تصبح مجرد ديكور بلا جدوى؟ إنه لغز يحتاج إلى إجابة، لأن الصمت على الفساد هو جريمة بحد ذاتها.

لجان السبوبة: استنزاف بـ6 ملايين جنيه
إذا كنت تظن أن الرشاوى كانت الفضيحة الوحيدة، فانتظر حتى تسمع عن “لجان السبوبة”. رئيس الشركة المستقيل وبطانته شكلوا أكثر من 30 لجنة، تعقد اجتماعاتها شهريًا أو أكثر، بتكلفة إجمالية تجاوزت 6 ملايين جنيه. هذه اللجان، مثل لجنة مأمونية مياه الشرب، ولجنة ترشيد الطاقة، ولجنة جودة الصرف الصحي، ضمت مسؤولين من خارج الشركة مثل وكيل وزارة الري عبد السلام جابر، ووكيل وزارة الصحة أسامة بلبل، ورئيس شركة الكهرباء حسن البيلي.

لم تكن هذه اللجان سوى وسيلة لصرف المكافآت والبدلات دون عمل حقيقي. بعضها، مثل لجنة الكورونا ولجنة الضرائب، كان مجرد ستار لتوزيع الأموال على المقربين. بل إن رئيس الشركة عين مستشارًا ضريبيًا بـ8000 جنيه شهريًا مع سيارة ومكافآت، رغم وجود لجنة ضرائب بالفعل! إنها لعبة ذكية لنهب المال العام تحت غطاء “اللجان”، لكنها في النهاية لم تخدع عيون الرقابة.

مخالفات بالجملة: تحايل على القوانين
لم يكتفِ رئيس الشركة بالفساد العلني، بل تحايل على قرار وزير الإسكان الذي حدد الحد الأقصى لمكافآت اللجان. بدلاً من الالتزام، قسم اللجان إلى لجان فرعية ليضاعف المبالغ المصروفة، فوصلت في بعض الشهور إلى 45 ألف جنيه للشخص الواحد. هذا التحايل لم يكن مجرد خطأ إداري، بل جريمة متعمدة لنهب المال العام.

من لجان التوظيف التي قُسمت إلى لجان فرعية لكل وظيفة وفرع، إلى لجان بلا جدوى مثل لجنة تسكين العاملين التي لم تنتهِ من مهمتها بعد سنة، كل ذلك يظهر مدى الاستهتار والجشع الذي سيطر على الشركة. إنه نظام فاسد بُني على استغلال الثغرات وتجاهل القوانين.

جباية على الطريقة العثمانية: استفزاز المواطن
بينما كان المسؤولون يتقاسمون الملايين، كان المواطن يعاني من رسوم استفزازية تُفرض عليه بلا مقابل. انقطاع المياه، تلوث الصرف الصحي، وخدمات متردية، كل ذلك مقابل فواتير باهظة تُشبه “الجباية العثمانية”. تخيل أمًا تقف في طابور للحصول على المياه النظيفة لأطفالها، بينما تدفع فاتورة لخدمة لم تتلقها، وفي الوقت نفسه يذهب مالها لجيوب الفاسدين. هذا الظلم المزدوج – سرقة المال العام واستغلال المواطن – هو ما يجعل هذه الفضيحة أكثر إيلامًا.

الحقيقة التى يجب ذكرها ان اللواء محمد يوسف المكلف من الشركة القابضة لادارة الشركة راجل ذو خلفية عسكرية منضبطة ومشهود له بالكفاءة وفى خلال الفترة القليلة الماضية قام بأكثر من ثلاثون جولة داخل مواقع الشركة لاعادة الانضباط المفقود

المحاسبة أو الغرق في مستنقع الفساد
في النهاية، هذه الفضيحة ليست مجرد قصة شركة فاسدة، بل انعكاس لأزمة أعمق في نظام يحتاج إلى إصلاح جذري. المحاسبة ليست خيارًا، بل ضرورة لاستعادة ثقة الشعب في مؤسساته. عيون مصر الساهرة، من رقابة إدارية ونيابة عامة، أثبتت أن الفساد لن يمر دون عقاب، لكن الطريق لا يزال طويلاً.

نطالب بمحاكمة عادلة لكل متورط، من رئيس الشركة إلى آخر مسؤول تقاضى رشوة. نطالب بإصلاحات تضمن الشفافية وتحمي المال العام من أيدي الفاسدين. ونقول لكل مواطن: هذا ملكك، هذا حقك، وهذا صوتك الذي يجب أن يُسمع. فلنجعل هذه القضية درسًا لكل من تسول له نفسه العبث بمستقبلنا، ولنعمل معًا لنبني مصر التي نستحقها، مصر نظيفة من الفساد، مزدهرة بالعدالة والكرامة.

اقراء المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد مرة أخرى

Copyright © All rights reserved.